بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
« حكايـة قنـاص وادي الحراميـة »
كان أزيز الرصاص قد صمت فجأة في منطقة وادي الحرامية شمال مدينة رام الله، ليرتفع مكانه رجع صدى حشرجات وتوسلات جنود ومستوطنين جرحى عندما القى ‘’ثائر’’ نظرة أخيرة لم تخل من عتاب على اشلاء بندقيته العزيزة وهو يستدير بهدوء عائدا الى منزله في بلدة سلواد المجاورة من دون ان يدرك ان الشظايا وبقية متاع خلفها وراءه ستكون بعد عامين الشاهد الملكي في قضية افترض ان لا شهود عليه فيها.
صباح الاثنين الثالث من مارس/ آذار 2002 استيقظ الشاب ثائر حماد ‘’26 سنة’’ قبل الفجر او لعله لم ينم ليلته، توضأ وأدى صلاة الفجر وتناول نسخة المصحف التي يحب.. وفي الخارج ارتدى بزة عسكرية لم يسبق وشوهد يرتديها وتمنطق بأمشاط الرصاص وامتشق بندقية الـ ‘’ام ‘’1 اميركية قديمة من زمن الحرب العالمية الثانية وتفقد عتاده المكون من 70 رصاصة خاصة بهذا الطراز القديم من البنادق.
امتطى ثائر مع انبلاج الصبح صهوة جواده وانطلق به مثل فارس جوال من العصور الوسطى يسابق خيوط الشمس الى جبل الباطن الى الغرب من بلدة سلواد في مسالك جبلية وعرة بدا انه كما الجواد يحفظها وصل الى المكان الذي سبق له وعاينه غير مرة فترجل.. وترك للجواد عنانه يمضي حيث اراد، فالفارس قرر الاستشهاد واطلق جواده.
في الأسفل حيث تخلت سفوح تلال سلواد الوعرة عن إنحدارها وبعض خضرة حقولها لتحتضن سواد اسفلت شارع رام الله - نابلس الملتوي مع مسار الوادي ومن موقعه كان بوسع ثائر رؤية المكان بكل تفاصيله.. كانت قطرات الندى لا تزال ترصع الاعشاب والاوراق الغضة في منظر بديع رآه بعينيه نصف المفتوحة على الفوهة المسددة بثبات ومعها رآى الحاجز العسكري بجنوده ومكوناته التي تشوه المكان.
ومن موقع هيأته له يد الطبيعة ركز ثائر البندقية من جذع زيتونة اتخذها ساترا يحميه ويواريه عن الانظار بعد ان تحسس بندقيته بأصابعه كمن يداعبها وتفقد جاهزيتها لآخر مرة وأطمأن ان المخازن الثلاثة ذات سعة الثمانية رصاصات محشوة بها وتفحص باقي الرصاصات واخذ يراقب ويستعد بانتظار ساعة الصفر التي بدا انه حددها لنفسه. من زنزانته التي انعم عليه فيها القائد الأسير النائب مروان البرغوثي يلقب امير كتائب شهداء الاقصى يسرد الفتى الجسور اليوم ادق تفاصيل العملية العسكرية التي اعتبرتها اسرائيل أخطر عملية نوعية تنفذها المقاومة أثناء انتفاضة الاقصى والتي لا يزال الشعب الفلسطيني يتغنى بها في كل مناسبة.
كانت الساعة قرابة الرابعة صباحا عندما انطلق ثائر نحو هدفه وكان جنود الحاجز الذي يذيق ابناء المنطقة الوان الاذلال والقهر وروح خاله الشهيد الذي اغتيل بدم بارد وصرخات الأبرياء تحثه وتدفعه الى القيام بعمل نوعي يشفي غليله ويلقن العدو درسا. كان يتطلع الى عملية فدائية أخيرة لأنه توقع ان ينال الشهادة فيها وفق ما أسر به الى شقيقه في الأسر.
أمضى ثائر نحو ساعتين يراقب ويخطط بعناية طول المسافة التي تبعده عن هدفه بين 120 - 150 مترا هوائيا الى الشرق منه ومع اشارة عقارب ساعة يده الى السادسة اطلق رصاصته الاولى. كان ثلاثة جنود يحرسون الحاجز سدد على الاول فاستقرت الرصاصة في جبهته وخرّ مع صدى صوت الرصاصة.. كَبَرتْ يقول ثائر ولاحقت الثاني بفوهة البندقية وعاجلته برصاصة واحدة استقرت في القلب كَبَرتْ وزادت ثقتي بنفسي وفعل بندقيتي وأرديت الثالث برصاصة اخرى.
أعتقد ان ثلاثتهم خروا صرعى وعندما خرج جنديان آخران من الغرفة المجاورة مذعورين يحاولون استطلاع الأمر لم اجد صعوبة في الحاقهما لمن سبقهم الى مصرعه ومن داخل الغرفة ذاتها رأيت سادسا كان يصرخ مثل مجنون اصابه مس المفاجأة كان ينادي بالعربية والعبرية ان انصرفوا وهو يدور في الداخل كان سلاحه بيده ولم يطلق في تلك اللحظة الرصاص، لاح لي رأسه من النافذة الصغيرة اطلقت عليه وانقطع الصوت وساد سكون الموت منطقة الحاجز برهة. أعتقد انني عالجت أمر الوردية بست رصاصات. وفجأت وصلت الى المكان سيارة مدنية اسرائيلية ترجل منها مستوطنان اثنان صوب الاول سلاحه وقبل ان يتمكن من الضغط على الزناد كان تلقى رصاصة وسقط صاحبه الى جواره مع ضغط الزناد التالي.
مضت ربما دقيقتان يقدر ثائر قبل ان تصل سيارة جيب عسكرية اعتقد ثائر انها وصلت بهدف تبديل الوردية وما ان اتضح للضابط ومجموعته الأمر حتى ترجلوا وتفرقوا واخذوا يطلقون الرصاص على غير هدى في كل اتجاه. وتابع ‘’هذا الوضع والفوضى في الاسفل ساعدني في معالجة أمرهم وسقطوا بين صريع وجريح بالتزامن مع وصول سيارة اخرى للمستوطنين وشاحنة عربية أجبر سائقها على الترجل حيث تمكنت من اصابة المستوطنين الى جانبه من دون ان أمسه هو بأذى.
ويتذكر ثائر الذي يقضي حكما بالسجن 11 مؤبدا كيف وصلت مركبة مدنية اسرائيلية لاحظ ان بداخلها امرأة اسرائيلية مع اطفالها ويقول ‘’كانت في نطاق الهدف.. ولكنني امتنعت عن التصويب باتجاهها بل صرخت فيها بالعربية والعبرية ان انصرفي خذي اطفالك وعودي ويذكر انه لوح لها ايضا بيده طالبا منها الابتعاد.. فانا لست قاتلا’’ يقول من اعتقدته اسرائيل قناصا شيشانيا مخضرما ومحترفا وكل ما اردته ان اجبر هؤلاء القتلة الذين يمعنون في قهر واذلال العباد على الحواجز ويتلذذون بقتل الابرياء من دون سبب على دفع فاتورة الحساب.
بالنسبة لثائر الذي سطر ملحمة وادي عيون الحرامية وبات قناصها فان الرياح لم تجر كما تشتهي سفينته ففي تلك اللحظة انفجرت بندقيته العزيزة بين يديه وتناثرت اشلاء في المكان ما اجبره على انهاء المعركة بطريقة مغايرة لما خطط لها، كان قد اطلق بين 24 و26 رصاصة فقط من عتاده المكون من 70 رصاصة يعتقد انها جميعا استقرت في اجساد هدفه حيث قتل 11 جنديا ومستوطنا واصاب تسعة آخرين
برؤية الواثق وهدوئه اتخذ ثائر قرار الانسحاب صعودا في طريق العودة الى المنزل كان ذلك نحو الساعة السابعة والنصف صباحاً عندما دلف الى بيته واسرع لأخذ حمام ساخن وخلد الى الفراش فأخذ قسطا من النوم قبل ان يوقظه صوت شقيقه يحثه على الاسراع لتحضير جنازة قريب لهما توفي.
وترافقا في العمل في القيام بواجب العزاء، كل شيء كان طبيعيا ولم يبد على ثائر أية مظاهر غير معروفة عنه حتى عندما بدأت الانباء عن العملية تتردد في القرية بكل ما رافقها من إشاعات عن ان رجلاً مسناً هو القناص الفذ الذي نفذ العملية التي يؤكد ثائر ان احدا لم يساعده في تنفيذها او يعلم بسرها لكن مصادر تشير انه اشرك احد اشقائه الخمسة في سره. كان ثائر على أية حال سعيدا ومرتاحاً على غير العادة في الايام الأخيرة ربما كان فخورا بأنه فرض سيطرة كاملة على عدو مدجج يثير الرهبة والفزع اينما حل ولكنه امامه كان يطلب السلامة. ولد ثائر كايد قدورة حماد في 2/7/1980 في بلدة سلواد شمال شرق رام الله لأسرة متواضعة لها من الابناء الذكور خمسة غيره ومنذ نعومة اظفاره تميز عن اشقائه بتحمل المسؤولية وحب المغامرة وروح المخاطرة وامتهن بناء المآذن في المساجد التي يعتقد انها السبب في ولعه بالمخاطرة حيث كان يقوم بعمله على ارتفاعات شاهقة من دون ان يربط نفسه بحزام كما يفعل الآخرون.
يتبع----------->